كلما أثيرت قضية المثلية الجنسية في مصر تهيج العواصف قليلاً ثم تهدأ بلا إحراز أي تقدم. قد يكون السبب في ذلك طغيان القضايا السياسية والحقوقية الكبرى، والانتهاكات الموسعة بدنياً واقتصادياً واجتماعياً، فضلاً عن الصراع حول انتزاع الحق في المجال العام إجمالاً دون خوض في فرعيات أو تفاصيل. ولكن يبقى السؤال: لماذا لا يحدث تقدم نسبي كلما تجدد الجدل عن المرة السابقة؟ وهنا أرى الإشكالية في غياب الجدل أساساً، فما يسود بخصوص المثلية الجنسية، كما غيرها، ما هو إلا حوار طرشان يصمم كل منهم أن يتحدث بمنطقه الأحادي، تاركين الأغلبية من الناس في التباس بين حقائق القضية وضلالاتها.
الموقف المجتمعي العام معروف أنه محافظ لدرجة الجمود ورافض للاعتراف بوجود تنوع في الميول الجنسية، وهو أمر مفهوم، بخلاف موقف آخر غير مفهوم متعلق برفض مناقشة الأمر من الأساس للتعرف عليه عن كثب والاستماع لما هو غير مألوف وشائع. فالسائد مجتمعياً فيما يخص المثلية إما نصوص دينية، أو أحكام فقهية، أو أوصاف تطلق على سبيل السب والقذف، أو كثير من الصور الذهنية الخاطئة عن المثليين. يمكنك أن تلتقط كثيراً من ذلك بأذنيك في أرجاء مصر عموماً، أو حتى في جولة بوسط القاهرة بين الباعة والتجار ورواد المقاهي الشعبية، الذين لا تفصلهم سوى خطوات بسيطة عن مقاهي "النشطاء والمثقفين" وبعض مقرات المؤسسات الحقوقية والمدنية المهتمة بالحقوق الشخصية. وفي الأخيرة، يمكنك أن ترى للمثلية الجنسية في مصر وجهاً آخر، وتسمع قوالب نصية مختلفة ومواقف جامدة مقابلة.
في مقاهي متناثرة بحي الزمالك ووسط البلد في القاهرة يمكنك أن تلتقي بمجموعات من المثليين الذين يعلنون عن أنفسهم رمزياً وسلوكياً في اتفاق ضمني بين الحاضرين والرواد على احترام الحقوق الشخصية للآخرين وعدم الملاحقة بالنظرات المستهجنة أو التعليقات المؤذية، فضلاً عن الأمان من الاعتداء البدني بالضرب الذي قد يحدث بشكل غير مبرر في الأحياء الشعبية. في مجتمع وسط البلد بالقاهرة يمكنك اللقاء مع حقوقيين وناشطين مدنيين يدافعون عن المثلية الجنسية مستخدمين أحدث الأدبيات والأفكار التي طورتها حركات المثليين حول العالم، بما في ذلك أدبيات LGBT Rights، أو ما يمكن ترجمته بحقوق "المثليين والمثليات ومزدوجي الميول الجنسية والمتحولين جنسياً". وما بين رافضي مناقشة الأمر ابتداءً والمنادين بتقنين زواج المثليين يضيع فهم الناس لأبعاد الأزمة وتتبدد فرص الجدل البنّاء الذي قد يترتب عليه تقدم ما.
والمدخل المركب في هذه القضية واجب، وليس اختياراً، حيث يتشابك النفسي بالسلوكي بالاجتماعي بالديني بالثقافي بالقانوني. فلا يمكن تبني مدخل أحادي ينطلق من نصوص دينية فقط، أو من بعض الأدبيات الحقوقية وحسب. وفي السطور القادمة أحاول تقديم مدخل مركب لتحليل القضية وفض اشتباكاتها الوهمية لنبدأ الجدل حول الإشكاليات الحقيقية.
البعد النفسي والسلوكي
أظن أن جانباً من الإشكاليات الوهمية المثارة في قضية المثلية الجنسية هي دفاع المثليين ومناصريهم عن نسبتهم المئوية، سواء استدلوا بإحصائيات أجنبية أمكن إجراؤها في أجواء أكثر انفتاحاً، أم بشواهد من البيئة المحلية تؤكد أكثريتهم التي تصل لدرجة قد يستدل بها على أن التنوع في الميل الجنسي أمر طبيعي. وبعيداً عن التذرع بما يسمى "الخصوصية الثقافية" للمجتمعات الشرقية/العربية/الإسلامية لرفض بنود مهمة في الاتفاقيات الحقوقية العالمية، فإنه من الواجب في السياق المصري/العربي/الشرقي أن تتم التفرقة بين المثليّين المتوافقين نفسياً مع ميولهم، ونظرائهم الرافضين للمثلية الجنسية المداومين على الشعور بالذنب، والذين يعتبرون المثلية نوعاً من الإدمان غير المرغوب فيه وفق معاييرهم (الشخصية/الدينية/الأخلاقية/المجتمعية). ذلك لأن اعتبار المثليين كتلة واحدة لها مطالب/حقوق ثابتة ومطردة إنما هو في الحقيقة مصادرة لأصوات متنوعة داخلهم تنادي باحتياجات مختلفة عن الشائع في الخطاب الحقوقي.
فإذا اتفق الطرفان على هذه التفرقة، ينتقل الجدل إلى نقطة أكثر تحديداً متعلقة بحق المثليين غير المتوافقين في المساعدة النفسية. وهنا يكون من المقبول أن تتباين وجهات النظر حول طبيعة الدعم النفسي الذي ينبغي تقديمه؛ هل هو دعم سيكولوجي سلوكي من أجل الإقلاع والتخلص من الميول الجنسية المثلية؟ أم دعم سيكولوجي معرفي يتجه لإحداث التوافق بين الشخص وميوله مع إقناع أنها ميول مقبولة وطبيعية؟ ورغم بداهة وقوع هذا الانقسام تبعاً للمنطلقات المبدئية المؤيدة في المجمل أو الرافضة في المجمل، إلا أن الإضافة التي تحملها هذه الخطوة هي إيجاد مساحة متفق عليها بين الطرفين، مع الإبقاء على الخلاف حول المثلية الجنسية المقترنة بالتوافق النفسي. ولا بأس من انتقال الجدل من المعرفة بمعنى knowledge إلى المعرفة بالمعنى الإبستمولوجي وما يرتبط به من منطلقات وجودية نابعة من رؤية الشخص لموقعه من الكون وعلاقته بالميتافيزيقي المتجاوز له وغيرها من معتقدات وفلسفة ينتج عنها تباين بين المرتكز حول الإله والمرتكز حول الإنسان أو المادة، أو حتى العدم. أما حصر الجدل حول ما هو "طبيعي" وما هو "شاذ" بناءً على النسب المئوية، التي يستحيل التحقق منها أو تعميمها، فهو نوع من العبث في مجتمع لا يعبر عن أية حقيقة فيه رقم واحد متفق عليه.
البعد المعرفي والثقافي
حين تغيب الحقائق تشيع الخرافات، وحينما يجهل المتحدثون طبيعة ما يتعاركون عليه فلا أمل في التوصل إلى حل. فالمثليّ جنسياً في الثقافة الشعبية إما مغتصب أطفال، أو شخص بهيمي لا يحركه سوى شهوته، أو داعر تم تدليله صغيراً ثم أدمن الممارسة مع أي شخص متاح. والحقيقة أن التشنيع على المثليين بهذه الطريقة، فضلاً عن كونه تضليلاً وتنميطاً سلبياً، إلا أنه يقطع السبيل على المثليين غير المتوافقين نفسياً والذين تُحبط رغباتهم في التغيير النفسي والسلوكي في الاتجاه السائد والمقبول مجتمعياً. فالوصمة الأبدية والفضيحة والإهانة والتجريس والقطيعة هي أقل ما يمكن أن يقابله المثليّ، إن لم يصل الأمر إلى الاعتداء البدني، بل ربما الجنسي – للمفارقة!
وبالتعمق قليلاً، نجد أن غياب المعرفة بالسياقات التربوية والسلوكية التي يظهر فيها الميل الجنسي المثليّ وطغيانه على الميل الجنسي "الطبيعي" – أو تزاوجهما سوياً – يؤدي إلى الخلط بين من اختار/ت المثلية ومن أجبر/ت عليها أو اضطر/ت لها. وبالتالي يختلط المثليّون المتزنون في سلوكهم الجنسي (المنخرطين في علاقة واحدة جادة) بنظرائهم المضطربين سلوكياً، والذين قد تقترن المثلية لديهم بالعلاقات العابرة الكثيرة أو حتى الحفلات الجنسية (مثلهم كمثل المضطربين جنسياً من ذوي الميل الجنسي "الطبيعي"). ويترتب على ذلك دخول المثليين عموماً ضمن حالة الاستنفار الأخلاقية الجوفاء لمطاردة من يراه السلطويون تهديداً للنظام الاجتماعي والآداب العامة، رغم أن كثيراً من المثليين – بغض النظر عن توافقهم النفسي الجنسي أو عدمه – يكاد لا يشعر بتوجههم الجنسي أحد.
وتمتد الإشكالية المعرفية كلما تخطينا مرحلة إلى المرحلة التي تليها، فتشمل – من بين ما تشمل – الجهل بتشريح جسدَيْ الذكر والأنثى، واحتياجاتهما الجنسية، ونقاط الإثارة والإشباع لدى كل منهما بما في ذلك "نقطة جي" (G-spot) عند كل من الرجل والمرأة. ومع تفاقم الآثار المترتبة على الجهل الجنسي العام الذي يعصف باستقرار كثير من الأسر والأزواج التقليديين، فإن من غير المستغرب جنسياً أن تقام علاقات مثلية على هامش العلاقة الزوجية "الطبيعية" ليصير أحد طرفي الزواج، أو كلاهما، مزدوج الميل الجنسي. وكذلك فإن الجهل بالأسباب الطبية، العضوية والنفسية، التي تحتّم إجراء عمليات تحويل جنسي منتشر بين الأطباء أنفسهم الذين تخرجوا من منظومة تعليم طبي لا توصف بأقل من متهالكة، فضلاً عن الوضع الأكاديمي المتردي في مصر والبلدان العربية عموماً. والنتيجة هي خلط غير علمي بين الاضطراب الجنسي العضوي والنفسي وبين الميول المثلية، ولبسٌ وتعميم واختزال لصورة المثليين. (جدير بالذكر أني قابلت بعض الأطباء النفسيين الذين يخلطون بين الميل الجنسي المثلي واضطراب "البيدوفيليا" أو اشتهاء الأطفال)
المكون الديني
أما الدين فلا يزال ذا مركز محوري في قضية المثلية الجنسية في العالم العربي. وللأسف، لا يزال جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل، سواء على المستوى الفردي بين المثلي ونفسه أم على المستوى الاجتماعي. فالمثليّ لا يعرف من الدين سوى الوعيد والتهديد على مثليّته. والأمر جد مختلط بين تجريم السلوك/الفعل/الممارسة وبين تحريم الميل المثليّ وإن لم يقترن بفعل. وكجزء من أزمة الخطاب الديني الترهيبي والتفزيعي ينشأ لدى المثلي متلازمة من الشعور بالذنب ومعاقبة الذات بتكرار الفعل الذي يؤكد احتقاره لذاته وشعوره بالذنب، وهكذا دواليك.
وعلى المستوى الاجتماعي، لا تتوقف الإشكاليات التي يصنعها الدين عند حد الخطاب السائد في مجتمع المسجد/الكنيسة. فالتنشئة الذكورية الخالصة أو الأنثوية الخالصة في جيتوهات منفصلة بدوافع دينية ينتج عنها إذكاء للميول الجنسية المثلية التي يحرّمها الخطاب السائد داخل الجيتو. والسلطوية الدينية التي يحمل لواءها استبداديون متدينون يظنون أن من واجباتهم تقويم أخلاق الناس تدفعهم لملاحقة المثليين وإقصائهم ومعاملتهم كمجرمين مستحقين للإعدام وفق مفهومهم عن الحدود الشرعية. ورغم أن الدفاع عن "صحيح الدين" في مقابل رفض التشدد والسلطوية الدينية صار من القوالب اللفظية و"الإكليشيهات" التي لا تغني ولا تسمن من جوع، إلا أنه من المفارقات أن يتشدق الإسلاميون بسيرة عمر بن الخطاب ومناقبه ويستشهدون بنصوص القرآن والحديث النبوي ثم تجدهم يتجاهلون تماماً كل ما له علاقة بحرمة الحياة الخاصة، والستر، وعدم تتبع العورات، وتحريم القذف، وتجريم التجسس والتلصص. فلا يتم استدعاء الدين إلا لتبرير السلطوية تحت شعار محاربة الرذيلة، ونشر الفضيلة، وإقامة ما يرونه من الحدود.
المعالجة السوسيولوجية
لا تعتبر المثلية الجنسية "قضية" إلا بخروجها من الإطار الشخصي إلى الحيز الاجتماعي، وما يترتب على هذا الخروج من تفاعلات مع الأطراف الاجتماعية المختلفة. وتتأكد بتحول المثلية إلى هوية فرعية / أقلية تصارع من أجل الحصول على الاعتراف بوجودها وبما تراه حقوقها. ولا يمكن فهم تطور قضية المثليين والمكاسب التي انتزعوها عبر عقود من النضال في الولايات المتحدة وأوروبا إلا في ضوء السياق التاريخي والثقافي لما اصطلح على تسميته "الغرب". فبالتوازي مع الضغط الحثيث من أجل رفع المثلية الجنسية من قائمة الاضطرابات العقلية والأمراض النفسية من تصنيف جمعية الأطباء النفسيين الأمريكية الذي استمر ما يقرب من قرن من الزمان، فإن حركات المثليين قد أنتجت مئات الألوف من الأعمال الصحفية والأدبية والفنية دفاعاً عن قضاياهم، فضلاً عن ترويج سردياتهم لما تعرضوا له من قتل وتنكيل في كثير من البلدان التي ترفع الآن راية الحريات الجنسية، مثل الدول الاسكندنافية وهولندا وغيرها. ومع الثورة الجنسية في ستينيات القرن العشرين وموجة التنظير لما بعد الحداثة ونشوء الحركات الاجتماعية الجديدة، قفزت مجموعات المثليين مسافات كبيرة في نضالها من أجل انتزاع حقوقها في التعبير عن نفسها وعن هوياتها في المجال العام. وهو ما ترتب عليه مواجهات واعتداءات من قبل القوى المحافظة في مجتمعاتها، فسقط الضحايا، واكتظت دراما السرديات بمآسي ومرثيات استطاعوا استثمارها، حتى صار للمثليين مهرجان أو اثنان سنوياً في أكثر من مدينة في كل الدول الغربية تقريباً. ثم امتدت حركات LGBT وانتقل أثرها إلى دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية والدول الآسيوية، وبالأخص بعد انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي وتراجع الخطاب المنادي بتقديم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على الحقوق السياسية والمدنية والحريات.
لذلك فإن محاولة بعض المثليين في مصر والعالم العربي البدء من حيث انتهى إليه مثليو الغرب، ولو على مستوى الخطاب والأدبيات، هي محاولة يائسة وغير منطقية. فمن ناحية موضوعية هم لم يقدموا من الاستحقاقات النضالية ما يؤهلهم للمقارنة أساساً، ومن ناحية تفسيرية تعتبر قضاياهم جزءاً من إشكاليات كبيرة متعلقة بالجنس عموماً، إنْ على مستوى المعرفة والثقافة أو على مستوى الحقوق والكفالات. وفي ظل مجتمع "لا يهتم بالفقير إلا إذا كان ناخباً، ولا يلتفت للعاري إلا إذا كانت امرأة"، وفق تعبير الساخر المصري الراحل جلال عامر، فإنه من المفهوم أن تعتبر قضايا المثليين ترفاً نخبوياً لا يهم الجماهير الغفيرة المسحوقة تحت وطأة الحياة اليومية، والمسحولة بوليسياً، والتائهة لسنتين تبحث عن ثورتها المخطوفة من العسكر والإخوان.
الإطار القانوني
لم يوافق البرلمان الفرنسي على تقنين زواج المثليين إلا من أسابيع قليلة، ولم يمر الأمر دون احتجاجات جماهيرية في بلد الحريات والثورة الجنسية. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، التي أشار رئيسها في خطاب تنصيبه الأخير في مطلع العام الجاري إلى التنوع في الميول الجنسية، يفرض القانون الفيدرالي مراعاة حقوق المثليين حتى على مستوى اللغة. فالرؤساء الأمريكيون جميعاً منذ جورج واشنطن وحتى باراك أوباما تزوجوا من نساء، إلا أن القانون يحتّم استخدام لفظ قرين/ة (spouse) بديلاً عن زوجة (wife). ورغم ذلك، فإن زواج المثليين غير قانوني في أكثر من أربعين ولاية أمريكية. أما هولندا التي تضع نصباً تذكارياً في عاصمتها لـ "المثليّ المجهول" (رمز تضحيات المثليين بحياتهم) فهي التي تقنن الحشيش والدعارة في خصوصية قانونية تتفرد بها عن الغالبية الساحقة من دول العالم. فإذا كان فلاسفة القانون ينظّرون لأصول القانون والبيئة التي يشرع فيها، فإنه من الواضح أن البيئة العربية عموماً، والمصرية خصوصاً، ستظل بعيدة تماماً عن أحلام المثليين المتطلعين لأوضاع قانونية متقدمة تكفل حقوقهم في التبني من أجل تكوين "شكل مختلف من الأسرة".
لكن الاختلاف الشديد في السياق التاريخي والسوسيولوجي لا يعني غياب الأرضية المشتركة التي يمكن أن يلتقي فيها المناصرون والمعارضون للمثلية الجنسية في مصر. فقوانين حرمة الحياة الخاصة، والمنازل، ومناهضة التمييز بكافة أشكاله، وغيرها من قوانين تحمي الحريات والحقوق المدنية والسياسية، إذا تم إتقان صياغتها وتدقيقها يمكن أن تحمي المثليين باعتبارهم مواطنين في المقام الأول. ويبقى الجدل محصوراً فيما يخص تجريم المثلية وفقاً لنصوص القانون الجنائي، أو استصدار قانون بتجريم التشهير والوصم بسبب الميول الجنسية (وهو – إن صدر – يعد موافقاً للشريعة الإسلامية بالمناسبة). وكما أوضحت في بداية المقال، فإني أحاول فض الاشتباكات الوهمية حول قضايا المثليين لتركيز الجدل فيما تستحقه من نقاط مهمة وواقعية، دون ادّعاء أني أطرح حلولاً نهائية أو أرسم خريطة طريق.
من حل الأزمة المستحيل إلى إدارتها الممكنة
يحلم المحافظون والرومانسيون عموماً، والإسلاميون منهم خصوصاً، بعالم مثالي مدنه كلها فاضلة، تعمها الشمائل، وتختفي منها الرذائل. في حين أن مجتمع المدينة المنورة في عهد النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – قد شهد وجود المنافقين، واللصوص، والزناة، ومدمني الخمور. بل إن اشتمال الشريعة على نصوص أبدية تتعلق بالسرقة والزنا والقتل وغيرها، مع إيمان الإسلاميين أنها صالحة لكل زمان ومكان مع اختلاف الفتوى والتأويل، لهو أكبر دليل على استحالة وجود يوتوبيا الفضيلة المنشودة. أما مناصرو المثلية والتحرريون في مصر فيمكن اختصار عالمهم بجزيرة مانهاتن كبيرة يمتد منها شارع إليزيه طويل يربط الحي الأحمر في أمستردام بميدان تقسيم في إسطنبول، وعلى ضفتي الطريق عدد من المعابد والكنائس والمساجد، تتخللها دور عرض سينمائية، ومسارح، ومكتبات، ومراقص، وعدد لا بأس به من المنظمات المدنية تطل على مقاهي ثقافية يكثر بها الأناركيون. لكنهم يتناسون أن العقبة الكؤود ليست في الإسلاميين الذين ملأوا ميدان التحرير في مليونيات الهوية والشريعة، بل في سوق باب اللوق القريبة من مقهى البستان ومقاهي البورصة، كما هي مشكلتهم مع الباعة الجائلين الذين يفسدون عليهم الاستمتاع بجمال وسط البلد دون القدرة على التفاهم معهم.
في ظل حشد انتخابي يذهب أغلبه إلى الإسلاميين – حتى الآن – وفي ظل تلفيق الدستور والقوانين وسرعة تمريرها، فإن مناصري الحقوق المدنية والسياسية في العموم، ومنهم مناصرو المثلية الجنسية، لا يزالون في موقف غير مناسب لانتزاع ما يطمحون إليه من نصوص. وفي مجتمع تجاوز مرحلة مخالفة القوانين إلى التفنن في وضع نصوص ينتهكها، فإن النضال المقتبس من "الأدلة الإرشادية" لحركات ومجموعات LGBT لا يعدو كونه تضييعاً للجهد والوقت، فضلاً عن مجافاته لاحتياجات شريحة كبيرة من المثليين لا ترى أولويتها في اكتساب اعتراف أو تقنين، بل في الإقلاع عن المثلية من أجل توافقها النفسي والاجتماعي واتساقها مع ما تؤمن به.
لذلك، ولأسباب علمية وسوسيولوجية كثيرة، أرى من الأنسب تحويل حوار الطرشان المتطلعين إلى الانتصار الكامل، سواء بالقضاء الوهمي التام على كافة الرذائل، ومنها المثلية الجنسية في وجهة نظرهم، أم بتقنين زواج المثليين وتشريع حقهم في التبني وإعلان رئيس الوزراء المنتخب عن ميله المثليّ، إلى جدل حقيقي وجاد من أجل إدارة القضية. وبرؤية التنوع والاختلاف الداخلي بين المثليين وبعضهم، وباعتبار الاحتياجات المختلفة لهم، بما في ذلك الاحتياج للتخلي عن المثلية، وبرفع الوصمة وتجريم التشهير والتمييز، وبصيانة حرمة الحياة الخاصة، يمكن الوصول إلى حالة وسط مرضية للطرفين. ويبقى التحدي الكبير في إيجاد لغة مشتركة بين الطرفين تترجم فيها مفردات مثل "إشاعة الفاحشة" و"الحرية الجنسية" إلى مفردات وسيطة ترفع التشنج والتوتر عن كل منهما.